بشرية الرسل ووحدة دعوتهم
سورة النساء
إن الذين يكفرون بالله ويكفرون برسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله وبين رسله، بأن يؤمنوا به، ويكذبوا بهم، ويقولون: نؤمن ببعض الرسل، ونكفر ببعضهم، ويريدون أن يتخذوا طريقًا بين الكفر والإيمان يتوهمون أنها تنجيهم.
أولئك الذين يسلكون هذا المسلك هم الكافرون حقًّا، ذلك أنّ من كفر بالرسل أو ببعضهم فقد كفر بالله وبرسله، وأعددنا للكافرين عذابًا مذلًّا لهم يوم القيامة، عقابًا لهم على تكبرهم عن الإيمان بالله وبرسله.
ولما ذكر الله جزاء الكافرين ذكر بعده جزاء المؤمنين فقال:والذين آمنوا بالله ووحَّدوه، ولم يشركوا به أحدًا، وصَدَّقُوا برسله جميعًا، ولم يفرقوا بين أحد منهم كما يفعله الكافرون، بل آمنوا بهم جميعًا، أولئك سوف يعطيهم الله أجرًا عظيمًا جزاء إيمانهم وأعمالهم الصالحة النابعة منه، وكان الله غفورًا لمن تاب من عباده، رحيمًا بهم.
يسألك - أيها الرسول - اليهود أن تنزل عليهم كتابًا من السماء جملة واحدة كما وقع لموسى، يكون علامة لصدقك، فلا تستعظم منهم ذلك، فقد سأل أسلافهم موسى أعظم مما سألك هؤلاء، حيث سألوه أن يريهم الله عيانًا، فَصُعِقُوا عقابًا لهم على ما ارتكبوه، ثم أحياهم الله، فعبدوا العجل من دون الله من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة الدالة على وحدانية الله وتفرده بالربوبية والألوهية، ثم تجاوزنا عنهم، وأعطينا موسى حجة واضحة على قومه.
ورفعنا فوقهم الجبل بسبب أخذ العهد المؤكد عليهم تخويفًا ليعملوا بما فيه، وقلنا لهم بعد رفعه: ادخلوا باب بيت المقدس سُجَّدًا بانحناء الرؤوس، فدخلوا يزحفون على أدبارهم، وقلنا لهم: لا تعتدوا بالإقدام على الصيد يوم السبت، فما كان منهم إلا أن اعتدوا فاصطادوا، وأخذنا عليهم عهدًا موثقًا شديدًا بذلك، فنقضوا العهد المأخوذ عليهم.
فطردناهم من رحمتنا بسبب نقضهم العهد المؤكد عليهم، وبسبب كفرهم بآيات الله، وجراءتهم على قتل الأنبياء، وبقولهم لمحمد ﷺ: قلوبنا في غطاء، فلا تعي ما تقول، والأمر ليس كما قالوا، بل ختم الله على قلوبهم فلا يصل إليها خير، فلا يؤمنون إلا إيمانًا قليلًا لا ينفعهم.
وطردناهم من الرحمة بسبب كفرهم، وبسبب رميهم مريم عليها السلام بالزنى زورًا وبهتانًا.
ولعناهم بقولهم مفتخرين كذبًا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله. وما قتلوه كما ادعوا وما صلبوه، ولكن قتلوا رجلًا ألقى الله شَبَهَ عيسى عليه وصلبوه، فظنوا أن المقتول هو عيسى عليه السلام. والذين ادعوا قتله من اليهود والذين أسلموه إليهم من النصارى، كلاهما في حيرة من أمره وشك، فليس لهم به علم، وإنما يتبعون الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا، وما قتلوا عيسى، وما صلبوه قطعًا.
بل نجّاه الله من مكرهم، ورفعه الله بجسمه وروحه إليه، وكان الله عزيزًا في ملكه، لا يغالبه أحد، حكيمًا في تدبيره وقضائه وشرعه.
وما من أحد من أهل الكتاب إلا سيؤمن بعيسى عليه السلام بعد نزوله آخر الزمان وقبل موته، ويوم القيامة يكون عيسى عليه السلام شاهدًا على أعمالهم، ما يوافق الشرع منها وما يخالف
فبسبب ظلم اليهود حَرَّمْنا عليهم بعض المآكل الطيبة التي كانت حلالًا لهم، فحرمنا عليهم كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما، وبسبب صدهم أنفسهم وصدهم غيرهم عن سبيل الله، حتى صار الصد عن الخير سجية لهم.
وبسبب تعاملهم بالربا بعد أن نهاهم الله عن تناوله، وبسبب أخذ أموال الناس بغير حق شرعي، وأعددنا للكافرين منهم عذابًا موجعًا.
ولما ذكر مثالب أهل الكتاب ذكر المؤمنين منهم فقال: لكنِ الثابتون المتمكنون في العلم من اليهود، والمؤمنون يُصَدِّقُون بما أنزله الله عليك - أيها الرسول - من القرآن، ويُصَدِّقُون بما أنزل من الكتب على من قبلك من الرسل كالتوراة والإنجيل، ويقيمون الصلاة، ويعطون زكاة أموالهم، ويصدقون بالله إلهًا واحدًا لا شريك له، ويصدقون بيوم القيامة، أولئك المتصفون بهذه الصفات سنعطيهم ثوابًا عظيمًا.
إنا أوحينا إليك - أيها الرسول - كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك، فلست بِدْعًا من الرسل، فقد أوحينا إلى نوح، وأوحينا إلى الأنبياء الذين جاؤوا من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم، وإلى ابنيه: إسماعيل وإسحاق، وإلى يعقوب بن إسحاق، وإلى الأسباط، (وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة من أبناء يعقوب عليه السلام)، وأعطينا داود كتابًا هو الزبور.
وأرسلنا رسلًا قصصناهم عليك في القرآن، وأرسلنا رسلًا لم نقصصهم عليك فيه، وتركنا ذكرهم فيه لحكمة، وكلَّم الله موسى بالنبوة - دون وساطة - تكليمًا حقيقيًّا يليق به سبحانه وتعالى تكريمًا لموسى.
أرسلناهم مبشرين بالثواب الكريم من آمن بالله، ومُخَوِّفِين من كفر به من العذاب الأليم، حتى لا تكون للناس حجة على الله بعد إرسال الرسل يعتذرون بها، وكان الله عزيزًا في ملكه حكيمًا في قضائه.
إنْ كان اليهود يكفرون بك فإن الله يصدقك بصحة ما أنزل إليك - أيها الرسول - من القرآن، أنزل فيه علمه الذي أراد أن يُطْلِعَ العباد عليه مما يحبه ويرضاه أو يكرهه ويأباه، والملائكة يشهدون بصدق ما جئت به مع شهادة الله، وكفى بالله شهيدًا، فشهادته كافية عن شهادة غيره.
إن الذين كفروا بنبوتك، وصدوا الناس عن الإسلام قد بَعُدُوا عن الحق بُعْدًا شديدًا.
إن الذين كفروا بالله وبرسله، وظلموا أنفسهم ببقائها على الكفر، لم يكن الله ليغفر لهم ما هم مصرُّون عليه من الكفر، ولا ليرشدهم إلى طريق تنجيهم من عذاب الله.
إلا الطريق المؤدية إلى دخول جهنم ماكثين فيها دائمًا، وكان ذلك على الله هينًا، فهو لا يعجزه شيء.
يا أيها الناس قد جاءكم الرسول محمد ﷺ بالهدى ودين الحق من الله تعالى، فآمنوا بما جاءكم به يكن خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، وإن تكفروا بالله فإن الله غني عن إيمانكم، ولا يضره كفركم، فله ملك ما في السماوات، وله ملك ما في الأرض وما بينهما، وكان الله عليمًا بمن يستحق الهداية فييسرها له، وبمن لا يستحقها فيُعْميه عنها، حكيمًا في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
قل - أيها الرسول - للنصارى أهل الإنجيل: لا تتجاوزوا الحد في دينكم، ولا تقولوا على الله في شأن عيسى عليه السلام إلا الحق، إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله أرسله بالحق، خَلَقَهُ بكلمته التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم، وهي قوله: كُنْ، فكان، وهي نفخة من الله نفخها جبريل بأمر من الله، فآمِنوا بالله ورسله جميعًا دون تفريق بينهم، ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة، انتهوا عن هذه المقولة الكاذبة الفاسدة يكن انتهاؤكم عنها خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، إنما الله إله واحد تنزه عن الشريك وعن الولد، فهو غني، له ملك السماوات وملك الأرض وملك ما فيهما، وحَسْبُ ما في السماوات والأرض بالله قيمًا ومدبرًا لهم.
لن يأنف عيسى بن مريم ويمتنع أن يكون عبدًا لله، ولا الملائكة الذين قربهم الله له، ورفع منزلتهم أن يكونوا عبادًا لله، فكيف تتخذون عيسى إلهًا؟! وكيف يتخذ المشركون الملائكة آلهة؟! ومن يأنف عن عبادة الله، ويترفع عنها فإن الله سيحشر الجميع إليه يوم القيامة، ويجازي كلًّا بما يستحق.
ولما بين أن الجميع سيحشره الله إليه فصَّل جزاءهم في قوله: فأما الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله، وعملوا الأعمال الصالحات مخلصين لله عاملين وفق ما شرع، فسيعطيهم ثواب أعمالهم غير منقوص، وسيزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه، وأما الذين أنِفُوا عن عبادة الله وطاعته وترفعوا تكبرًا، فيعذبهم عذابًا موجعًا، ولا يجدون من دون الله من يتولاهم فيجلب لهم النفع، ولا من ينصرهم فيدفع عنهم الضر.
يا أيها الناس قد جاءكم من ربكم حجة جلية تقطع العذر وتزيل الشبهة - وهو محمد ﷺ -، وأنزلنا إليكم ضياءً واضحًا، وهو هذا القرآن.
فأما الذين آمنوا بالله وتمسكوا بالقرآن الذي أنزل على نبيهم فسيرحمهم الله بدخول الجنة، ويزيدهم ثوابًا ورَفْع درجات، ويوفقهم لسلوك الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، وهو الطريق الموصل إلى جنات عدن.