مريم وعيسى في القرآن
سورة آل عمران
إن الله اختار آدم عليه السلام فأسجد له ملائكته، واختار نوحًا فجعله أول رسول إلى أهل الأرض، واختار آل إبراهيم فجعل النبوة باقية في ذريته، واختار آل عمران، اختار كل هؤلاء وفضلهم على أهل زمانهم.
هؤلاء المذكورون من الأنبياء وذرياتهم المُتّبِعون لطريقتهم هم ذرية بعضها متسلسل من بعض في توحيد الله وعمل الصالحات، يتوارثون من بعضهم المكارم والفضائل، والله سميع لأقوال عباده، عليم بأفعالهم، ولهذا يختار من يشاء منهم، ويصطفي منهم من يشاء.
اذكر - أيها الرسول - إذ قالت امرأة عمران والدة مريم عليها السلام: يا رب إني أوجبت على نفسي أن أجعل ما في بطني من حمل خالصًا لوجهك، محرّرًا من كل شيء ليخدمك ويخدم بيتك، فتقبل مني ذلك، إنك أنت السميع لدعائي، العليم بنيّتي.
فلما تم حملُها وضعت ما في بطنها، وقالت معتذرة - وقد كانت ترجو أن يكون الحمل ذكرًا -: يا رب إني ولدتها أنثى، والله أعلم بما ولدت، وليس الذكر الذي كانت ترجوه كالأنثى التي وُهِبت لها في القوة والخِلْقَة. وإني سمَّيتها مريم، وإني حَصَّنتها بك هي وذريتها من الشيطان المطرود من رحمتك.
فتقبَّل الله نذرها بقَبول حسن، وأنشأها نشأةً حسنة، وعطف عليها قلوب الصالحين من عباده، وجعل كفالتها إلى زكريا عليه السلام. وكان زكريا كلما دخل عليها مكان العبادة وجد عندها رزقًا طيبًا ميسّرًا، فقال مخاطبًا إياها: يا مريم، من أين لك هذا الرزق؟ قالت مجيبة إياه: هذا الرزق من عند الله، إن الله يرزق من يشاء رزقًا واسعًا بغير حساب.
عند ذلك الذي رآه زكريا من رزق الله تعالى لمريم بنت عمران على غير المعتاد من سُننه تعالى في الرزق، رجا أن يرزقه الله ولدًا مع الحال التي هو عليها من تقدم سنِّه وعُقْم امرأته، فقال: يا رب، هب لي ولدًا طيبًا، إنك سميعٌ لدعاء من دعاك، مجيب له.
فنادته الملائكة مخاطبة له وهو في حال قيامه للصلاة في مكان عبادته بقولها: إن الله يُبشّرك بولد يولد لك اسمه يحيى، من صفته أن يكون مصدقًا بكلمة من الله، وهو عيسى ابن مريم - لأنه خُلِق خلقًا خاصًّا بكلمة من الله - ويكون هذا الولد سيدًا على قومه في العلم والعبادة، مانعًا نفسه وحابسها عن الشهوات ومنها قُرْبان النساء، متفرغًا لعبادة ربه، ويكون - أيضًا - نبيًّا من الصالحين.
قال زكريا لمّا بشرته الملائكة بيحيى: يا رب، كيف يكون لي ولد بعد أن صرت شيخًا، وامرأتي عقيم لا يولد لها! قال الله جوابًا على قوله: مَثَلُ خَلْق يحيى على كبر سنِّك وعُقْم زوجك، كخلق الله ما يشاء مما يخالف المألوف عادة، لأن الله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء بحكمته وعلمه.
قال زكريا: يا رب، اجعل لي علامة على حمل امرأتي مني، قال الله: علامتك التي طلبتَ هي: ألا تستطيع كلام الناس ثلاثة أيام بلياليهن إلا بالإشارة ونحوها، من غير خلل يصيبك، فأَكثِرْ مِن ذكر الله وتسبيحه في آخر النهار وأوله.
واذكر - أيها الرسول - حين قالت الملائكة لمريم عليها السلام: إن الله اختارك لما تتصفين به من صفات حميدة، وطَهَّرك من النقائص، واختارك على نساء العالمين في زمانك.
يا مريم، أطيلي القيام في الصلاة، واسجدي لربك، واركعي له مع الراكعين من عباده الصالحين.
ذلك المذكور من خبر زكريا ومريم عليهما السلام من أخبار الغيب نوحيه إليك - أيها الرسول - وما كنت عند أولئك العلماء والصالحين حين اختصموا فيمن هو أحق بتربية مريم، حتى لجؤوا للقرعة فألقوا أقلامهم، ففاز قلم زكريا عليه السلام.
اذكر - أيها الرسول - إذ قالت الملائكة: يا مريم، إن الله يبشّرك بولد يكون خَلْقُه من غير أب، وإنما بكلمة من الله بأن يقول له: «كن»، فيكون ولدًا بإذن الله، واسم هذا الولد: المسيح عيسى بن مريم، له مكانة عظيمة في الدنيا وفي الآخرة، ومن المقربين إليه تعالى.
ويكلم الناس وهو طفل صغير قبل أوان الكلام، ويكلمهم وهو كبير قد كَملت قوَّتُه ورجولته، يخاطبهم بما فيه صلاح أمر دينهم ودنياهم، وهو من الصالحين في أقوالهم وأعمالهم.
قالت مريم مستغربةً أن يكون لها ولد من غير زوج: كيف يكون لي ولد ولم يقربني بشر لا في حلال ولا في حرام؟! قال لها الملَك: مِثلُ ما خلق الله لك ولدًا من غير أب، يخلق ما يشاء مما يخالف المألوف والعادة، فإذا أراد أمرًا قال له: «كن» فيكون، فلا يعجزه شيء.
ويُعلمه الكتابة والإصابة والتوفيق في القول والعمل، ويعلمه التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام، ويعلمه الإنجيل الذي سينزله عليه.
ويجعله - كذلك - رسولًا إلى بني إسرائيل، حيث يقول لهم: إني رسول الله إليكم قد جئتكم بعلامة دالة على صدق نبوتي هي: أني أُصوِّر لكم من مادة الطين مثل شكل الطير، فأنفخ فيه فيصير طيرًا حيًّا بإذن الله، وأشفي من وُلِد أعمى فيبصر، ومن أصيب بِبَرَصٍ فيعود جلده سليمًا، وأُحْيي من كان ميتًا، كل ذلك بإذن الله، وأخبركم بما تأكلون وبما تخبئون في بيوتكم من طعام وتخفونه، إن فيما ذكرته لكم من هذه الأمور العظيمة التي لا يقدر عليها البشر، لعلامةً ظاهرة على أني رسول من الله إليكم، إن كنتم تريدون الإيمان، وتصدقون بالبراهين.
وجئتكم - كذلك - مصدقًا لما نزل قبلي من التوراة، وجئتكم لأحل لكم بعض ما حُرِّم عليكم من قبلُ، تيسيرًا وتخفيفًا عليكم، وجئتكم بحجة واضحة على صحة ما قلت لكم، فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه.
ذلك لأن الله ربي وربكم، فهو وحده المُستحِقُّ أن يُطاع ويُتقى، فاعبدوه وحده، هذا الذي أمرتكم به من عبادة الله وتقواه هو الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
فلما علم عيسى عليه السلام منهم الإصرار على الكفر، قال مخاطبًا بني إسرائيل: من ينصرني في الدعوة إلى الله؟ قال الأصفياء من أتباعه: نحن أنصار دين الله، آمنا بالله واتبعناك، واشهد - يا عيسى - بأنا منقادون لله بتوحيده وطاعته.
وقال الحواريون كذلك: ربنا آمنا بما أنزلت من الإنجيل، واتبعنا عيسى عليه السلام، فاجعلنا مع الشاهدين بالحق الذين آمنوا بك وبرسلك.
ومَكَر الكافرون من بني إسرائيل حيث سعوا في قتل عيسى عليه السلام، فمكر الله بهم فتركهم في ضلالهم، وألقى شَبَهَ عيسى عليه السلام على رجل آخر، والله خير الماكرين، لأنه لا أشد من مكره تعالى بأعدائه.
ومكر الله بهم - أيضًا - حين قال مخاطبًا عيسى عليه السلام: يا عيسى، إني قابضك من غير موت، ورافعٌ بدنك وروحك إلي، ومُنزِّهك من رِجْس الذين كفروا بك ومُبعِدك عنهم، وجاعل الذين اتبعوك على الدين الحق - ومنه الإيمان بمحمد ﷺ - فوق الذين كفروا بك إلى يوم القيامة بالبرهان والعزة، ثم إليَّ وحدي رجوعكم يوم القيامة، فأحكم بينكم بالحق فيما كنتم فيه تختلفون.
فأما الذين كفروا بك وبالحق الذي جئتهم به فأعذبهم عذابًا شديدًا في الدنيا بالقتل والأسر والذل وغيرها، وفي الآخرة بعذاب النار، وما لهم من ناصرين يدفعون عنهم العذاب.
وأما الذين آمنوا بك وبالحق الذي جئتهم به، وعملوا الصالحات من صلاة وزكاة وصيام وصلة وغيرها، فإن الله يعطيهم ثواب أعمالهم تامة لا يُنقِصُ منها شيئًا، وهذا الحديث عن أتباع المسيح قبل بعثة النبي محمد ﷺ الذي بشَّر به المسيحُ نفسُه، والله لا يحب الظالمين، ومن أعظم الظلم الشرك بالله تعالى وتكذيب رسله.
ذلك الذي نقرؤه عليك من خبر عيسى عليه السلام من العلامات الواضحات الدالة على صحة ما أُنزل إليك، وهو ذِكْرٌ للمتقين، محكم لا يأتيه الباطل.
إن مثل خلق عيسى عليه السلام عند الله كمثل خلق آدم من تراب، من غير أب ولا أم، وإنما قال الله له: كن بشرًا فكان كما أراد تعالى، فكيف يزعمون أنه إله بحجة أنه خُلِق من غير أب، وهم يقرون بأن آدم بشر، مع أنه خُلِق من غير أب ولا أم؟!
الحق الذي لا شك فيه في شأن عيسى عليه السلام هو الذي نزل عليك من ربك، فلا تكن من الشاكِّين المُتردِّدين، بل عليك الثبات على ما أنت عليه من الحق.
فمن جادلك - أيها الرسول - من نصارى نجران في أمر عيسى زاعمًا أنه ليس عبدًا لله من بعد ما جاءك من العلم الصحيح في شأنه، فقل لهم: تعالوا نُنادِ للحضور أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ونجتمع كلنا، ثم نتضرع إلى الله بالدعاء أن ينزل لعنته على الكاذبين منا ومنكم.
إن هذا الذي ذكرنا لك من شأن عيسى عليه السلام هو الخبر الحق الذي لا كذب فيه ولا شك، وما من معبود بحق إلا الله وحده، وإن الله لهو العزيز في ملكه، الحكيم في تدبيره وأمره وخلقه.
فإن أعرضوا عما جئت به، ولم يتبعوك، فذلك من فسادهم، والله عليم بالمفسدين في الأرض، وسيجازيهم على ذلك.
قل - أيها الرسول -: تعالوا يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، نجتمع على كلمة عدلٍ نستوي فيها جميعًا: أن نُفْرد الله بالعبادة فلا نعبد معه أحدًا سواه مهما كانت منزلته، وعلت مكانته، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا يُعبدون ويُطاعون من دون الله، فإن انصرفوا عن هذا الذي تدعوهم إليه من الحق والعدل فقولوا لهم - أيها المؤمنون -: اشهدوا بأنا مستسلمون لله منقادون له تعالى بالطاعة.
يا أهل الكتاب لِمَ تجادلون في ملّة إبراهيم عليه السلام؟ فاليهودي يزعم أن إبراهيم كان يهوديًّا، والنصراني يزعم أنه كان نصرانيًّا، وأنتم تعلمون أنّ اليهودية والنصرانية لم تظهر إلا بعد موته بوقت طويل، أفلا تدركون بعقولكم بطلان قولكم وخطأ زعمكم؟!
ها أنتم - يا أهل الكتاب - جادلتم النبي ﷺ فيما لكم به علم من أمر دينكم وما أُنزِل عليكم، فَلِم تجادلون فيما ليس لكم به علم من أمر إبراهيم ودينه، مما ليس في كتبكم ولا جاءت به أنبياؤكم؟! والله يعلم حقائق الأمور وبواطنها وأنتم لا تعلمون.
ما كان إبراهيم عليه السلام على الملة اليهودية، ولا على النصرانية، ولكن كان مائلًا عن الأديان الباطلة، مسلمًا لله موحدًا له تعالى، وما كان من المشركين به كما يزعم مشركو العرب أنهم على ملته.
إن أحق الناس بالانتساب إلى إبراهيم، هم الذين اتبعوا ما جاء به في زمانه، وأحق الناس أيضًا بذلك هذا النبي محمد ﷺ، والذين آمنوا به من هذه الأمة، والله ناصر المؤمنين به وحافظهم.