إبراهيم عليه السلام وقصة التوحيد
سورة الانعام
واذكر - أيها الرسول - حين قال إبراهيم عليه السلام لأبيه المشرك آزر: يا أبتِ، أتجعل الأصنام آلهة تعبدها من دون الله؟! إني أراك وقومك الذين يعبدون الأوثان في ضلال بَيِّنٍ، وحيرة عن طريق الحق بسبب عبادتكم غير الله، فهو سبحانه المعبود بحق، وغيره معبود بالباطل.
وكما أريناه ضلال أبيه وقومه نريه ملك السماوات والأرض الواسع، ليستدل بذلك الملك الواسع على وحدانية الله واستحقاقه العبادة وحده، ليكون من الموقنين بأن الله واحد لا شريك له، وأنه قادر على كل شيء.
فحين أظلم عليه الليل، رأى كوكبًا، فقال: هذا ربي، فلما غاب الكوكب قال: لا أحب من يغيب، لأن الإله الحق حاضر لا يغيب.
وحين رأى القمر طالعًا قال: هذا ربي، فلما غاب قال: لئن لم يوفقني الله لتوحيده وعبادته وحده لأكونن من القوم البعيدين عن دينه الحق.
وحين رأى الشمس طالعة قال: هذا الطالع ربي، هذا الطالع أكبر من الكوكب ومن القمر، فلما غابت قال: يا قوم، إني بريء مما تشركون مع الله.
ولما تبرأ مما يعبدون من دون الله كأنهم سألوه: ما تعبد إذن؟ فقال: إني أخلصت ديني للذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق، مائلًا عن الشرك إلى التوحيد الخالص، ولست من المشركين الذين يعبدون معه غيره.
وخاصمه قومه المشركون في توحيد الله سبحانه، وخَوَّفُوهُ من أصنامهم، فقال لهم: أتخاصمونني في توحيد الله وإفراده بالعبادة، وقد وفقني ربي إليه، ولست أخاف من أصنامكم، فإنها لا تملك ضُرًّا فَتَضُرَّنِي ولا نفعًا فَتَنْفَعَنِي إلا أن يشاء الله، فما شاء الله كائن، ومع عِلْم الله كلَّ شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أفلا تتذكرون - يا قوم - ما أنتم عليه من الكفر بالله والشرك به فتؤمنوا بالله وحده؟!
وكيف يقع مني خوف لما تعبدون من دون الله من أوثان، ولا يقع منكم أنتم خوف لشرككم بالله حين أشركتم معه ما خلقه دون برهان لكم على ذلك؟! فأي الجَمْعَيْنِ: جَمْعِ الموحِّدين وجَمْعِ المشركين أولى بالأمن والسلامة؟ إن كنتم تعلمون أوْلاهما فاتبعوه، وأَوْلاهما - دون ريب - هو جمع المؤمنين الموحدين.
الذين آمنوا بالله، واتبعوا ما شرع، ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، لهم الأمن والسلامة وحدهم دون غيرهم، وهم موفقون، وفقهم ربهم لطريق الهداية.
وتلك الحجة وهي قوله: ﴿فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أحَقُّ بِالأَمْنِ...﴾ التي غلب إبراهيم بها قومه حتى انقطعت حجتهم، هي حجتنا وفَّقْناه لمُحاجَّة قومه بها، وأعطيناه إياها، نرفع من نشاء من عبادنا مراتب في الدنيا والآخرة، إن ربك - أيها الرسول - حكيم في خلقه وتدبيره، عليم بعباده.
ورزقنا إبراهيم ابنه إسحاق وحفيده يعقوب، ووفقنا كلًّا منهما للصراط المستقيم، ووفقنا نوحًا من قبلهم، ووفقنا لطريق الحق من ذرية نوح كلًّا من داود وابنه سليمان وأيوب ويوسف وموسى وأخيه هارون عليهم السلام، ومثل هذا الجزاء الذي جازينا به الأنبياء على إحسانهم نجازي به المحسنين من غيرهم على إحسانهم.
ووفقنا كذلك كلًّا من زكريا ويحيى وعيسى بن مريم وإلياس عليهم السلام، وكل هؤلاء الأنبياء من الصالحين اختارهم الله رسلًا.
ووفقنا كذلك إسماعيل واليسع ويونس ولوطًا عليهم السلام، وكل هؤلاء الأنبياء وعلى رأسهم النبي محمد ﷺ فضلناهم على العالمين.
ووفقنا بعض آبائهم وبعض أبنائهم وبعض إخوانهم ممن شئنا توفيقه، واخترناهم، ووفقناهم لسلوك الطريق المستقيم الذي هو طريق توحيد الله وطاعته.
ذلك الذي حصل لهم من التوفيق هو توفيق الله يوفق له من شاء من عباده، ولو أشركوا مع الله غيره لبطل عملهم، لأن الشرك مبطل للعمل الصالح.
أولئك الأنبياء المذكورون هم الذين أعطيناهم الكتب، وأعطيناهم الحكمة، وأعطيناهم النبوة، فإن يكفر قومك بما أعطيناهم من هذه الثلاثة فقد هيأنا لها وأرصدنا قومًا ليسوا بكافرين بها، بل هم مؤمنون مستمسكون بها، وهم المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.
أولئك الأنبياء، ومن ذُكِرَ معهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم، هم أهل الهداية حقًّا، فاتَّبِعْهُم وتَأَسَّ بهم، وقل - أيها الرسول - لقومك: لا أطلب منكم على إبلاغ هذا القرآن جزاء، فالقرآن ليس إلا موعظة للعالمين من الإنس والجن ليسترشدوا به إلى الصراط المستقيم، والطريق الصحيح.